دوار «الشينوة» بالقنيطرة.. قصة جنود مغاربة حاربوا مع «لاندوشين»


المهدي السجاري
جريدة المساء
 
في سنة 1972 عاد إلى المغرب حوالي ثمانون محاربا رفقة أبنائهم وزوجاتهم الفيتناميات، بعد أن زجت فرنسا بآلاف المغاربة
في حروبها ببلاد الهند الصينية. إذ بعد سنوات من الاغتراب، أمر الراحل الحسن الثاني بإجلاء جميع المغاربة الذين بقوا عالقين في الفيتنام بعد نهاية الحرب، وتم منحهم مجموعة من الأراضي الفلاحية بمنطقة الغرب. "المساء" تأخذكم في رحلة بحث عن العائلات المغربية-الفيتنامية بدوار"الشينوة" قرب سيدي يحيى الغرب. كانت الشمس قد أشرقت لحظة وصولنا إلى محطة القطار سيدي يحيى، مكان هادئ في منطقة غابوية، ورائحة مصنع عجين الورق تزكم الأنوف. أهم شيء يثير انتباه من يتوقف بهذا المكان هو وجود أطنان من الخشب بجانب محطة القطار، وكأن المدينة أصبحت متخصصة في إعدام الطبيعة. على بعد حوالي سبعين كيلومترا عن العاصمة الرباط لازالت هذه المنطقة، على غرار باقي مدن وحواضر جهة الغرب الشراردة ابني احسن، تعاني من تهميش فاضح  يتجرع مرارته مواطنون لا حول لهم ولا قوة.
خرجنا من المحطة في اتجاه إحدى سيارات النقل السري، مغامرة محفوفة بالمخاطر ولكن «الموجود هو هذا» كما ردد أحدهم. بدأنا نسأل عن «العائلات المغربية-الفيتنامية»، فرد السائق بابتسامة عريضة «بغيتو تمشيو لدوار الشينوة». بالمغرب كل من كانت سحنته آسيوية فهو صيني أو «شينوي» بالعامية. اتجهت السيارة وسط غابة كبيرة من أشجار الأوكالبتيس، بين الفينة والأخرى، تبدو لنا بعض البيوت المنتشرة بين أشجار الغابة، قاطنوها يطلق عليهم اسم «الناس ديال الغابة». توقف السائق بعد حوالي 15 دقيقة من السير، وطلب منا النزول لأننا وصلنا إلى دوار «الشينوة».  ضيعة كبيرة تحيط بها أشجار الحوامض، ومنازل من القرميد تعود بالذاكرة إلى أفلام هوليود عن حرب طاحنة بالفيتنام. بدأ شاب يلوح من وسط أحد الحقول، ثم اتجه مسرعا نحو السيارة. تعرف على صحافي «المساء»، فطلب الدخول للقاء «محمد العلام» الذي عاد لتوه من فرنسا، رجل طاعن في السن، هو أحد المغاربة الذين هجرتهم فرنسا قسرا للمشاركة في حرب الهند الصينية المعروفة شعبيا بـ«لاندوشين». استقبلنا الرجل بحفاوة كبيرة، حيث بدا متحمسا لسرد حكايته قائلا: «مرحبا بالناس ديال الرباط». أحضر الشاب الذي استقبلنا في البداية الشاي، ليبدأ العلام في ربط الماضي بالحاضر، ويعيد نسج خيوط حكاية تلاقح حضاري من هانوي الفيتنامية إلى دوار «الشينوة» بحاضرة سيدي يحيى الغرب.


وقوف على أطلال الماضي

«شعب الفيتنام طيب، ويعامل الأجانب باحترام كبير»، هكذا يصف العلام شعب الفيتنام الذي عايشه لأكثر من عشرين سنة. قسمات وجهه تشي أنه تجاوز الثمانين، لكنه لازال يتذكر أدق التفاصيل عن معاركه في الفيتنام، وحكاياته مع شعب احتضنه إلى حين. الإنصات إلى بعض من شاركوا في حرب «لاندوشين» يجعلك تحس وكأنك تشاهد شريطا هوليوديا. حكاية تتلو الحكاية، وشهادات تروي الجميل والسيء عن النصف الآخر من العالم. اختلفت ظروفهم ودوافعهم، لكنهم وجدوا أنفسهم بين عشية وضحاها محاربين في صفوف الجيش الفرنسي. منهم من بقي يقاتل تحت علم «فرنسا الحرة»، ومنهم من وقع في الأسر أو اختار طواعية أن ينضم إلى الفيتناميين، فلقي المعاملة الحسنة.
لم يكن العلام يدري أن باخرة «باستور» ستقله بعيدا عن المغرب في رحلة دامت حوالي نصف شهر، حيث سيمكث لأكثر من 21 سنة بعد أن زجت فرنسا بآلاف المغاربة في حرب «لاندوشين». ذهب إلى بلاد الهند الصينية كمحارب في صفوف الجيش الفرنسي، لكنه اختار فيما بعد الهروب والالتحاق بالفيتناميين ليبدأ حياته كمدني يشتغل في الفلاحة بمنطقة «سانطاي»، يعمل في حقول الأرز والشاي وتربية الماشية. مهارة العلام في التواصل جعلته يشتغل أيضا في عمليات «البروبكانديس» للتأثير على المحاربين المغاربة في صفوف الفرنسيين. فقد اعتمدت الخطط الحربية لزعيم الثورة الفيتنامية «هو تشي منه» على الحملات الدعائية والحرب النفسية، لدفع المقاتلين تحت راية فرنسا إلى العودة إلى بلدانهم أو الانضمام إلى الفيتناميين. يقول العلام بصوت حاد: «كنا نردد دائما أن شعب الفيتنام مظلوم كالشعب المغربي».
يتذكر هذا المحارب السابق يوم لقائه بزوجته «نويتون» سنة 1957، حيث كلف آنذاك زوجة أحد أصدقائه التونسيين بالبحث عن سيدة «معقولة» للزواج بها، فبعد نهاية المعارك بالفيتنام، وجد نفسه بعيدا عن المغرب وأهله فبدأ يخطط للزواج وتكوين أسرة في حضن أهل بلاد الهند الصينية. «تزوجت المرا بلا ريال بلا زوج، الناس ديال الفيتنام دارو لينا الكاغيط من عندهم وعطاولينا الحقوق ديالنا كاملة»، هكذا يشرع العلام في سرد حيثيات ارتباطه بزوجته. يتوقف متحدثا لأحد الجيران ثم يستطرد قائلا: «إجراءات الزواج بالفيتنام ليست معقدة، المهم هو أن تجد السيدة المناسبة من أجل حياة هنيئة». بالنسبة إلى هذا العدو الذي أصبح فيما بعد صديقا للفيتناميين، مسألة الاختلاف العقائدي بينه وبين زوجته لم تكن عائقا أمام مشروع زواجهما، فهي بالنسبة إليه «إنسان كباقي بني البشر، إذ الأهم هو التفاهم أما الديانة فلا تشكل عائقا». رزق العلام من زوجته «نويتنون» بـ 10 أبناء، ولد ستة منهم بالفيتنام. السلطات هناك كانت تعوض المغاربة المتزوجين من الفيتناميات عن جميع أبنائهم، بخلاف الفيتناميين الذين كان يتم تعويضهم عن ابنين فقط. في حضن شعب الفيتنام، وزوجة وأبناء لا يعرفون عن المغرب وأهله إلا بعض الصور، بقي العلام حبيس الهموم والأحزان آملا أن يعانق يوما ما أرض الوطن.


العودة إلى الوطن

صوت «العلام» يحمل بين ثناياه حزنا دفينا عن حياة ممزقة على بعد أكثر من 17 ألف كيلومتر من المغرب، أما قسمات وجهه فتختزل معاناته بعيدا عن أهله وذويه. فقد حاول هذا المحارب رفقة بعض أصدقائه الاتصال بالمسؤولين المغاربة لإيجاد حل لمحنتهم، فلم يجدوا لذلك سبيلا. الحل الوحيد الذي كان أمام هؤلاء المغاربة هو مراسلة الملك الراحل الحسن الثاني عبر الداخلية الفيتنامية، التي تكلفت بنقل الرسالة على وجه السرعة. يروي العلام أن الحسن الثاني لم يكن يعلم بمحنتهم إلى أن راسلوه بشكل شخصي، لأن المسؤولين الذين تمت مراسلتهم من قبل لم يكترثوا بحقهم في العودة إلى بلدهم، حسب وصفه. لم تمر إلا أيام قليلة حتى انفرجت غيمة مغاربة «لاندوشين»، وتوجه وفد رسمي إلى الفيتنام لإجلاء المحاربين المغاربة. كانوا آنذاك حوالي ثمانين أسرة. يتذكر العلام جيدا لحظة لقاء الوفد المغربي الذي بعثه الحسن الثاني لإجلائهم، ففي اليوم الذي وصل فيه ذلك الوفد للاجتماع بمغاربة الفيتنام، حدثت المحاولة الانقلابية بالصخيرات فسادت أجواء من التوتر والخوف في صفوف الوفد، غير أن المسؤولين الفيتناميين أخبروهم بأن المحاولة قد فشلت وأن الأمور على ما يرام بالمغرب. وفي ليلة شتاء باردة، وصل إلى القاعدة الجوية العسكرية بالقنيطرة 70 محاربا مغربيا رفقة زوجاتهم وأبنائهم، بعد محنة اغتراب دامت أكثر من 21 سنة. عند عودة العلام وأصدقائه إلى المغرب، تم منحهم تعويضات وبعض الأراضي الفلاحية بمنطقة سيدي يحيى وتم إعفاؤهم من تأدية الضرائب. وبسبب بعض التعقيدات الخاصة بالتعويضات المادية، طالب هؤلاء المحاربون السابقون، عقب مشاركتهم في المسيرة الخضراء سنة 1975 بتسريح أجورهم التي لم تكن تتعدى آنذاك 10 دراهم حسب العلام.
حياة أفراد أسرة العلام بمنطقة سيدي يحيى الغرب لم تكن بالسهولة التي كانوا يتصورونها. فرغم التسهيلات التي قدمتها الدولة آنذاك، فإن نظرة المغاربة إلى هؤلاء «الشينوة» كانت تثير بعض الحساسية. يصف العلام أول أيام أسرته بالمغرب بـ«الصعبة»، لأنهم واجهوا مشكل اللغة وبعض التحرشات من بعض الناس الذين لم يألفوا عيش «الغرباء» إلى جانبهم. كما أن مجيء هؤلاء المحاربين من الهند الصينية دفع السلطات إلى القيام بزيارات روتينية. يروي العلام وعلامات الاستغراب بادية على محياه «الدولة كانت تظن أننا شيوعيون ولكن لم تكن لدينا أية علاقة بالفكر الشيوعي».هي السياسة تطارد أحلام الإنسان، حتى بعيدا عن السياسيين الذين هندسوا أقبح كابوس في حياة هؤلاء المحاربين. 


فيتناميات في جلباب مغربي

تركنا العلام بعد جلسة ممتعة تحت أشجار البرتقال، وتوجهنا نحو بيت مجاور، حيث التقينا سيدة واجهتنا في البداية برفض مطلق للحديث معنا، لأن لها تجربة سيئة مع إحدى المحطات التلفزيونية. بعد أخذ ورد، بدأت تكشف عن حكايتها في المغرب. اسمها كما هو مرقون على بطاقة الإقامة «أمينة نامتي بوك»، فعقب العودة إلى المغرب تم إلزام المغاربة المتزوجين من نساء فيتناميات بإبرام عقد زواج «شرعي»، فكان على الزوج أن يمنح زوجته الفيتنامية اسما مغربيا، ويدخلها الإسلام إذا أرادت ذلك. وجدنا صعوبة في فهم لغتها المغربية الدارجة، فكان علينا الاستعانة بمزارع شاب ألف تجاذب أطراف الحديث مع «أمينة الفيتنامية».
 مظهرها الخارجي لا يختلف عن مظهر النساء القرويات بالمنطقة، «درة حياتي» المعروفة لدى النسوة المغربيات لا تفارق رأسها، وحذاء بلاستيكي تنتعله من شروق الشمس إلى مغربها. بالنسبة إلى أمينة، فإن حياتها اليومية بالمغرب جعلتها تكتشف مغربا بمنابع ثقافية متعددة، لكنها تشكل وحدة غير قابلة للتجزئة. كلما سألناها عن الفرق بين الفيتنام والمغرب أجابت: «ليس هناك أي فرق بين الحياة في الفيتنام والحياة بالمغرب، تشبعت كثيرا بالثقافة المغربية التي أصبحت جزءا من ثقافتي وشخصيتي». توفي زوج أمينة منذ عدة سنوات، لكنها لم تقرر العودة إلى الفيتنام لأن ذلك يعني «إعادة بناء الحياة من جديد ولا يوجد أي مبرر للرحيل من هذا البلد الجميل». المشكلة الوحيدة التي ألحت علينا أمينة أن ننقلها إلى «مسؤولي الرباط» هي تعقيدات تجديد بطاقة الإقامة كل سنة.  فضعف حالها وعبء مصاريف التنقل إلى الرباط أثقلا كاهلها، فهي تدعو المسؤولين إلى «الاكتفاء ببطاقة دائمة، خاصة أنني دخلت المغرب منذ سنوات وأصبحت جزءا من هذا المجتمع».
عدنا إلى بيت العلام لكي نستفسر عن حكاية دخول الزوجات الفيتناميات في الإسلام، ومنحهن أسماء مغربية، فوجدنا زوجته «فاطنة نويتيون» قد وصلت لتوها من الرباط، إذ بدت سيدة هادئة في مظهر أنيق.
يحكي العلام أنه عندما توجه إلى المحكمة لإبرام عقد الزواج المغربي، واجهته عراقيل متعددة كان سببها أحد «العدول» الذي رفض منحه عقد الزواج حتى يقدم له بعض المال. يضيف الزوج متنهدا: «كانت لدي دراهم معدودات، أعطيته درهمين وتركت لنفسي درهمين». بعد أن قدم الدرهمين لتسهيل الحصول على عقد الزواج، بدأ العلام إجراءات دخول زوجته في الإسلام، حيث يقول مبتسما «بدا كايتماطل عليا وأنا نقول ليه لهلا يسلمها كاع»، يتوقف مترجما لزوجته الحكاية التي ربما قد نسيتها بعد سنوات من التعايش تحت سقف واحد، ثم يضيف «فاش قالي عطي شي سمية للزوجة ديالك قلت ليه دير فاطنة». اندمجت الزوجة في الثقافة المغربية، وهي الآن تسير إلى جانب أبنائها مطعما آسيويا يملكونه بحي أكدال بالرباط.


الطبخ الآسيوي.. حرفة الأبناء

«تعلمنا الطبخ الآسيوي عندما كنا في الفيتنام، ولما عدنا إلى المغرب طورنا مؤهلاتنا بعدد من المطاعم» يقول عبد السلام العلام الذي يشتغل حاليا رئيسا لمطعم آسيوي بمدينة فاس. عمره 49 سنة، ولد بالفيتنام وعاد في سن الثالثة عشرة إلى المغرب رفقة أبويه وإخوته. رجل ذو بنية جسدية قوية، حلق شعره حتى أصبح يشبه الصينيين القدامى. عندما كنا في ضيعة السيد محمد العلام، كان عبد السلام قد جاء لقضاء عطلة نهاية الأسبوع مع أفراد العائلة. كل من يلتقي أبناء فاطنة نويتون ومحمد العلام سيكتشف السحنة الآسيوية على محيا الأبناء، فهم خليط متجانس من الجينات المغربية والفيتنامية، بل حتى الأحفاد انتقلت إليهم ملامح الفيتناميين. بالنسبة إلى عبد السلام الحديث عن مشكل الهوية لا يوجد له أي مبرر، فهو مغربي وفيتنامي يتحدث اللغتين ومتشبع بالثقافتين أيضا. تخصصُ عبد السلام وبعض إخوته في الطبخ الآسيوي راجع بالأساس إلى مقامهم بالفيتنام، حيث انفتحوا على المطبخ الفيتنامي وتعلموا أسرار المائدة الآسيوية. عند عودته إلى المغرب، رحل عبد السلام في اتجاه مدينة الدار البيضاء للخضوع لتدريب مكثف بأحد المطاعم الآسيوية. سر نجاحه في هذا الميدان يرجعه عبد السلام إلى «حب العمل والتفاني في الخدمة المقدمة إلى الزبائن، وكذا الارتباط الشخصي بميدان الطبخ الآسيوي». يحكي عبد السلام مبتسما عن ارتباطه القوي برياضة القنص، وإذا سألته عن بعض تقنياتها فسيجيبك بمحاضرة تختزل عمق درايته بهذا الميدان.
قصة عبد السلام مع الطبخ الآسيوي تتردد على ألسن باقي إخوته. عبد الكريم، هو أيضا من أبناء محمد العلام الذين اختاروا أن يتخصصوا في هذا الميدان.هو الآن يسير إلى جانب أمه مطعما للطبخ الآسيوي بحي أكدال بالرباط، حيث يبدع في تقديم مثال للتلاقح بين الثقافتين المغربية والفيتنامية. بالنسبة إلى عبد الكريم الطبخ الآسيوي هو «تراث» ينقله واحد عن الآخر، فقد نقله الأبناء الذين ولدوا بالفيتنام إلى إخوتهم المزدادين بالمغرب.
كان الليل قد أرخى سدوله على دوار «الشينوة» عندما تركنا القرية بذكرياتها وآمالها، ولقاء شيق مع عائلة تمثل نموذجا للتلاقح الحضاري والثقافي. لم يحقق الأجداد والآباء أي امتياز يذكر من دفاعهم عن «فرنسا الحرة»، تركوا مشردين بين المغرب وفرنسا يقتاتون على ذكريات الماضي ويملؤون كتب التاريخ بحكاياتهم التي تأبي النسيان. هنا وهناك لازالت أجساد بعض من شاركوا في حرب «لاندوشين» شاهدة على رحى حرب طاحنة، أما عائلة العلام فقد كانت محظوظة وجعلت من دوار»الشينوة» رمزا للتعايش والتسامح في مغرب متعدد الثقافات
.